حتى لا ننسى
زرباني محمّد المدعو (العلمي بوزبوج)
1905 ــ 1972
المولد و النشأة :
هو زرباني محمّد المعروف في الحي ب: ( العلمي بوزبوج ) من مواليد سنة 1905 بحي الحفرة العتيق ، أبوه الحاج محمّد و أمّه أولادسليمان فاطنة ، توفي والده بعد ولادته بنحو 50يوما ، عرف حياة اليتم و لم يعرف من هذه الدّنيا شيئا ، تركه والده وحيدا بين اربع بنات هنّ ( خيرة ـ مريم ـ زبوجة ـ مسعودة ).بعد وفاة والدهم أشرف على تربيتهم عمّهم " بوجمعة " الذي لم يرزقه الله تعالى بالذرية فاتخذ من أبناء أخيه أبناء يرعاهم و يشرف عليهم حتى بلغوا مرحلة استطاعوا فيها الاعتماد على أنفسهم ، و تقرير مصير حياتهم في غمار هذه الدّنيا .
مرحلة التعلّم و العمل :
كانت عادة أبناء الحي أخذ التعلم الأولي لهم بمسجدهم العتيق فتعلم ما شاء الله من كتابه و لم يمكث كثيرا في التعليم القرآني ، نتيجة ظروفه الإجتماعية التي تدفعه إلى تحمّل مسؤولية عيال العائلة بعد وفاة والده فاتخذ من العمل اليوميّ بسوق البلدة حرفة يسترزق منها فقد برع في تغليف الزرابي التي تباع خارج غارداية إذ كان يساعد " بابا حسان العيورات " في متجره و كان مجالا لتنافس التجار الذين يرغبون في خدماته .
تزوّج عمّي العلمي و هو ابن الرابعة و العشرين من عمره أي سنة 1929 م تزوّج من " زنودة رقيّة " فرزقه الله منها تسع بنات توفي منهنّ أربع بنات و بقي على قيد الحياة كل من ( زبوجة ـ بختة ـ فاطنة ـ خديجة ـ عائشة ) ، و صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قال : " من عال ثلاث بنات ، أو ثلاث أخوات ، أو بنتين أو أختين كنّ له حجابا من النّار ، فإن صبر عليهنّ حتى يزوّجهنّ دخل الجنّة " ، و عن ابن عباس رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم قال : " من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا و هو كهاتين و ضمّ أصابعه عليه الصّلاة و السّلام " .
و قال الشاعر :
أُحبّ البنات فحبّ البنات فرض على كلّ نفس كريمة
لأنّ شعيبا لأجل البنـــات أخدمه الله موسى كليــــــــمه
فبنات عمّي العلمي يشهد لهنّ كل من يعرفهنّ أنّهن تلقين أحسن التربيّة على يد والدهنّ الذي لم يذخر جهدا في إطعام أسرته الحلال و من عرق جبينه ، فانعكست تلك التربية عليهنّ بالنفع إذ تعلّمن القرآن على يد الشيخ الجيلالي حشاني فكانت البنات على عهده يحفظن سورة النّساء كاملة لما فيها من الأحكام المتعلّقة بالنّساء ، ثمّ اقتحمن ميدان العمل التطوّعي الإجتماعي ومنه تغسيل الأموات من النّساء فكان لهنّ الأجر في الدنيا و حسن الثواب في الآخرة . وزوّجهن بالحلال و لهن من الآولاد و الآحفاد ما تقرّ به العيون .
فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " لا تكرهوا البنات فإنّهنّ المؤنسات الغاليات " . فرحم الله منهن الأموات و حفظ بحفظه الأحياء .
العمل في المسجد :
بعد استقلال الجزائر مباشرة اختار " عمّي العلمي" العمل التطوعي في بيت الله تعالى بمسجد خالد بن الوليد ـ حي الحفرة ـ غارداية ، و يشهد له كلّ من عرفه أنّه كان يبذل قصارى جهده في خدمة بيت الله ، إذ كان يجلب الحطب من أماكن بعيدة و يجمعه في مكان مخصص قرب المسجد ، و يقوم بنفسه بتسخين الماء في فصل الشتاء قبل آذان الفجر بالميضأة حتى يسهل على المصلين الوضوء في زمن لم تكن الأجهزة الحديثة متوفّرة فكان رحمه الله يبذل جهدا عضليا كبيرا خدمة لعمّار بيت الله ، كما أنّه كان يُستخلف للأذان في بعض الأحيان ، حين يغيب مؤذّنوا المسجد ـ و للعلم كان في ذلك الزمن الجميل ثلاثة مؤذنين متطوّعين يشرفون على الآذان في مسجد الحفرة وهم على التوالي : " غريقة بنّور، غراسليّةأحمد ، عطاالله بن عزوز"ــ فضلا على كلّ هذا كان ينظف المسجد إذ كان يًفرش المسجد إذ ذاك بالحصير و كان تنظيفه يتطلّب جهدا كبيرا ، وقد فاز بهذا العمل الفوز العظيم إذ جاء فب الأثر " كنس المساجد مهور الحور العين " ، و ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : " عُرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يُخرجها الرّجل من المسجد " ـ رواه ابو داود و الترمذي ـ
من عمله رحمه الله حفر القبور و غسل الأموات و تجهيزهم ، و كان يتوجّه على عهده مع الطلبة لإحياء حفلات الزفاف و الختان ، كذا مشاركة العائلات في مآتمهم بقراءة القرآن مدة سبعة أيام كاملات وهو جانب من مؤانسة الأسر و مشاركتهم أحزانهم .
لم يقتصر دوره رحمه الله على خدمة المسجد و حسب بل تعداه إلى خدمة مقبرة أولاد بوحميدة غارداية ، فغرس بها الاشجار و سقاها بالدلاء ، في زمن لم تكن المقبرة موصولة بقنوات المياه الصّالحة للشرب ، و على حدّ قول من عاصره كان هو المتسبب الرئيس في ربط المقبرة بقنوات المياه ، إذ طلب من " قادة بن دوسة " أن يساعده في ربط المقبرة بالماء حتى يسهل عليه سقي أشجارها فكان له ذلك .
هؤلاء نماذج من جيل لن يتكرّر أبدا ، رغم الفاقة و رغم ظروفهم البسيطة استطاعوا ان يتركوا بصماتهم في هذه الدّنيا ، ربوا أجيالا من المؤمنين على حبّ الله و رسوله رغم كل الظروف الصّعبة لا همّ لهم في هذه الدّنيا سوى العمل الصّالح فتوفاهم الله تعالى على دينه ، أحبّهم الله فاستخدمهم ووفقهم للعمل الصالح قبل وفاتهم.
وفاته :
تعرض عمي العلمي لمرض الربو في أواخر ايامه ، فلم يستطع مغالبة المرض حتى توفاه الله تعالى مؤمنا محتسبا في يوم 07 أوت 1972 ، و كما بلغنا عنه أنّه كان يتلو كتاب الله و هو على فراش الموت ، فكانت حياته كلّها في خدمة بيت الله لفأراد الله له النّهاية السّعيدة و هي كرامة منه عزّ وجل أن يفارق الإنسان هذه الدنيا و لسانه رطب بذكر الله ، فرحمه الله تعالى و اسكنه فسيح جناته مع النّبيين و الصدّقين ، و الشّهداء و الصّالحين و حسن أولئك رفيقا .
الأستاذ : ع/ أولادعبد الله .