صمود أبي جهل
أما الطاغية الأكبر أبو جهل ، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل ، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة : لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على ميعاد من محمد ، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد ، فإنهم قد عجلوا ، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم .
ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين .
نعم ، بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف ، وغابات من الرماح ، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج ، وأقلعت هذه الغابات ، وحينئذ ظهر هذا الطاغية ، ورآه المسلمون يجول على فرسه ، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين .
من روائع الإيمان في هذه المعركة
لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه.
1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه: " إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا "، فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه ـ أو لألجمنه ـ بالسيف ، فبلغت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال لعمر بن الخطاب :" يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالسيف "، فقال عمر: يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق .
فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة . فقتل يوم اليمامة شهيدًا .
2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري ، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب .
ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له ، يقاتلان سويًا ، فقال المجذر: يا أبا البخترى إن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قد نهانا عن قتلك ، فقال : وزميلي ؟ فقال المجذر : لا والله ما نحن بتاركي زميلك ، فقال : والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا ، ثم اقتتلا ، فاضطر المجذر إلى قتله .
3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة ، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن ، وهو واقف مع ابنه على بن أمية ، آخذًا بيده ، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ، وهو يحملها ، فلما رآه قال : هل لك في ؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك ، ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة في اللبن ؟ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع ، وأخذهما يمشى بهما ، قال عبد الرحمن : قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه : من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره ؟ قلت : ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل .
قال عبد الرحمن : فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة ـ فقال بلال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا. قلت: أي بلال ، أسيري. قال: لا نجوت إن نجا. قلت: أتسمع يا بن السوداء. قال: لا نجوت إن نجا. ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا. قال: فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري .
وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية : ابرك ، فبرك ، فألقى نفسه عليه ، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه ، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف .
وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه. وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه.
4 ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وهو في الأسر: يا عباس أسلم، فوالله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يعجبه إسلامك.
5 ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن:
لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ
6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه ، رأى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ قال: أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال .
7ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي ، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأعطاه جِذْلاً من حطب ، فقال : ( قاتل بهذا يا عكاشة ) ، فلما أخذه من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) هزه ، فعاد سيفًا في يده طويل القامة ، شديد المتن، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن ، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد ، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده . رواه ابن إسحاق في سيرته.
8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري : شد يديك به ، فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب : أهذه وصاتك بي ؟ فقال مصعب : إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك .
9 ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: ( يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ ) فقال: لا والله ، يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك . فدعا له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بخير، وقال له خيرًا .
قتلى الفريقين
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين ، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين ، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .
أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة ، قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ، وعامتهم القادة والزعماء والصناديد .
ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى وقف على القتلى فقال : " بئس العشيرة كنتم لنبيك، كذبتموني وصدقني الناس ، وخذلتموني ونصرني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس "_ زاد المعاد (3/187) _ ، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر .
وعن أبي طلحة: أن نبي الله(صلى الله عليه وسلم) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش ، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيث مُخْبث . وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى ، واتبعه أصحابه .
حتى قام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، " يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا ؟ " فقال عمر: يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟
قال النبي(صلى الله عليه وسلم) : " والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وفي رواية : "ما أنتم بأسمع منهم ، ولكن لا يجيبون ". متفق عليه